السبت، 15 فبراير 2014

تحرك المغرب في مالي

الرأي الازوادي - مراكز دراسات


في اجتماع عقد في المغرب في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، وافق وزراء خارجية 19 دولة، من بينها فرنسا وليبيا ومالي، على اتفاق لإنشاء معسكر تدريب مشترك لتأمين الحدود، ومن المرجح إقامته في العاصمة المغربية. وكان هذا الاتفاق المعروف باسم "إعلان الرباط" تتويجاً للجهود الكبيرة التي بذلتها المغرب لتأكيد تواجدها في العمليات الأمنية ومكافحة الإرهاب في شمال أفريقيا. وقد تجلت سياستها الخارجية الجديدة في ضوء الاضطرابات التي حدثت على مدار العامين الماضيين في مالي، والتي كانت، حتى وقت قريب، ضمن نطاق نفوذ جارتها الأكبر بكثير - الجزائر.
ففي خضم الأزمة المالية- التي أخذت شكل تمرد قبلي تبعه انقلاب عسكري وانتفاضة مسلحة أدت في النهاية إلى تدخل فرنسي - ركز صناع القرار والخبراء على فرصة الجزائر للعب دور في تسوية النزاع من خلال الاستفادة من جيشها الكبير وقوة أجهزتها الاستخباراتية. ولكنهم أصيبوا بخيبة أمل. فرغم أن تمركز الإرهابيين على طول الحدود بين مالي والجزائر كان إرثاً من الحرب الأهلية الجزائرية في تسعينات القرن الماضي - عندما أُجبر الإسلاميون المسلحون إلى التقهقر من المناطق الأكثر اكتظاظاً بالسكان في البلاد نحو جنوبها وإلى الحدود الصحراوية ثم إلى شمال مالي - بقيت الجزائر بعيداً عن الاضطرابات الدائرة في مالي ومنشغلة بسياستها الداخلية ومصالحها الشخصية. وقد ركزت الجزائر على تأمين حدودها ضد انتشار المتطرفين الإسلاميين وعلى الصراع الداخلي المستمر على السلطة بين إدارة الاستخبارات والأمن التي تتمتع بنفوذ كبير - وهي الفاعل الرئيسي منذ فترة طويلة - والنخبة الحاكمة من حزب "جبهة التحرير الوطني" الذي يتزعمه الرئيس عبد العزيز بوتفليقة الذي هو في السبعينيات من عمره.
وعلى النقيض من ذلك الموقف، هرعت المغرب إلى الانضمام إلى التدخل الذي قادته فرنسا في مالي. وبأخذها زمام المبادرة من منافستها، كانت المغرب قادرة على كسب أفضلية في معركتها مع الجزائر حول النفوذ الإقليمي. فالأشياء التي كانت صعبة المنال في السابق-  مثل ممارسة النفوذ وإقامة علاقات ثنائية مع دول في منطقة الساحل دون تدخل الجزائر - أصبحت الآن في متناول المغرب.باسم الملكوجدت المغرب نفسها مستبعدة إلى حد كبير من المبادرات الإقليمية بسبب تنافسها التاريخي مع الجزائر؛ على سبيل المثال، إنها ليست عضواً في "لجنة هيئة الأركان المشتركة" التي تتخذ من الجزائر مقراً لها والمعنية بتنسيق عمليات مكافحة الإرهاب بين الجزائر ومالي وموريتانيا والنيجر. فاستبعاد المغرب لم يعمل سوى على تقويض أي فرص للانخراط في ردود أكثر تماسكاً ومتعددة الأطراف ضد التطرف. وكنتيجة لذلك، يوجد لدى المغرب أسباب جيوستراتيجية واقتصادية وربما حتى توسعية لتعزيز مكانتها في شمال أفريقيا. ولكن إذا كانت دوافعها هي أيضاً أمنية في الأساس لوقف انتشار المتشددين الإسلاميين في المناطق الحدودية التي ينعدم فيها القانون في منطقة الساحل، فلدى المغرب ورقة فريدة من نوعها لكي تلعب بها في تعاملها مع المتطرفين ألا وهي: السلطة الدينية.
والمملكة المغربية - التي هي في السلطة منذ القرن السابع عشر - تستمد شرعيتها من سلالة الملك المباشرة المزعومة إلى النبي محمد، وهو ما يراه المغاربة أمراً لا لبس فيه. فالعاهل المغربي هو"أمير المؤمنين" كما يطلق على نفسه وهو أعلى سلطة دينية في البلاد. ويمكن القول أن شرعيته تفوق أي شرعية لأي عاهل عربي آخر، ويرجع ذلك إلى مجموعة من العوامل، بدءاً من الحكايات والعبر في أعقاب الثورات التي اندلعت ضد الحكام المستبدين العلمانيين في مصر وتونس إلى العباءة الدينية للملك والتجانس الديني في المغرب. وقد وضع العاهل الحالي الملك محمد السادس نفسه باعتباره رمزاً للاعتدال الديني والإصلاح في جميع أنحاء المنطقة من خلال ما تبناه من مبادرات مثل إرسال مئات الأئمة (بما في ذلك النساء) إلى المدن الأوروبية بصحبة عدد كبير من المغربيين للدعوة ضد التطرف.
كما وسَّع محمد السادس دائرة بعض من مبادراته لتشمل مالي، حيث قدّم منح دراسية دينية للطلبة الماليين في الجامعات المغربية. ويسعى مثل هذا التدريب إلى مكافحة الأيديولوجيات المتطرفة وتعزيز التسامح مع غير المسلمين، لكنه يقدم أيضاً تعليماً جامعياً موسعاً حول مواد دراسية بدءاً من التاريخ والجغرافيا وإلى العلوم السياسية وحقوق الإنسان. وينبغي لهذه الجهود وغيرها تقوية المدرسة المالكية المعتدلة نسبياً في الإسلام وفي ضوئها، الأمل باتخاذ خطوات استباقية لمنع التطرف الإسلامي، بدلاً من مجرد الرد عليه. وللإسلام السني أربع مدارس فقهية - الحنفية والحنبلية والمالكية والشافعية - والمدرسة المالكية هي الأكثر انتشاراً في شمال أفريقيا ومنطقة الساحل. وغالباً ما تدعو المدرسة المالكية إلى احترام السلطات حتى العلمانية منها وتعتبر عموماً المنهج الأكثر اعتدالاً في الإسلام.
لقد مارس محمد السادس سياساته الدينية بسهولة في المغرب منذ أن أحكمت الدولة سيطرتها العميقة على الحياة الدينية، عن طريق إملاء ساعات فتح المساجد، وطلب شهادة من الوزارة لجميع الأئمة، فضلاً عن إقرار فحوى الفتاوى التي تصدر من مصادر خارجية للحد من وصول التيار الإسلامي الدولي إلى البلاد. كما أن سيطرة الدولة قد حدّت من تشكيل جماعات سلفية مغربية، لاسيما عند مقارنتها مع جيرانها، وسمحت للحكومة بالعمل من أجل استيعاب عناصر من القيادة السلفية داخل المغرب واستمالتهم. كما بدأت دور النشر التابعة للدولة برنامجاً لطباعة نسخ من القرآن الكريم لتوزيعها على المساجد في الداخل، وكذلك إلى أوروبا وأجزاء من غرب أفريقيا.
الوصول الذي تستهدفه الرباطترغب المغرب الآن في نقل هذا النموذج الموحد الذي تقوده البلاد والمرتكز على الممارسة الدينية المعتدلة إلى مالي وفي أن تصبح مصدراً للإسلام المعتدل في شتى أنحاء شمال أفريقيا. وفي أيلول/سبتمبر عام 2013، وقّعت مالي والمغرب اتفاقاً لجلب 500 إمام مالي إلى المغرب للتدريب الديني، حيث تأمل الحكومتان أن يكون تدريبهم بمثابة الدرع الحصين ضد الدعاة المتشددين الباكستانيين والسعوديين الذين بنوا مدارس ومساجد في مالي. فالحساسيات الأصولية للسلفيين والوهابيين قد حلت تدريجياً محل الصوفية الأكثر استكانة في مالي وعبر شمال أفريقيا. وفي تشرين الثاني/نوفمبر، وقبل وقت قصير من توقيع البلدين على معاهدة الأمن الإقليمي، توصلت المغرب ومالي إلى اتفاق خاص بالشؤون الدينية. ومن خلال الشراكة التي جمعت بين وزارتي الشؤون الدينية الخاصة بكل منهما، اتفق البلدان على التعاون في العمل على فقه المالكية وتفسيرها من أجل تعزيز الاعتدال ومحاربة الأيديولوجيات المتشددة.وفي ضوء لعب المغرب دور المعلم في هذا الإطار، فإن الاتفاق سيشمل حتماً فرض الممارسات الدينية المغربية في مالي. ولكن، بالفعل هناك الكثير من القواسم المشتركة بين الممارسات الدينية في مالي ونظيرتها في المغرب - فالأولى تتبع المدرسة المالكية بشكل كبير - كما أن النخب في مالي ترى أن الهيمنة المغربية المحتملة هي أخف الضررين. وإذا ما كللت هذا المبادرة بالنجاح، فإنها قد تزيد من حجم تأثير المغرب في مالي وعلى منطقة الساحل الأوسع. لكن بإمكان المغرب تعزيز الآمال الوحدوية التي لا تزال عالقة في أذهانها منذ وقت طويل والهادفة إلى تأسيس المغرب الكبرى، التي تضم أطراف الصحراء الغربية المطلة على الجزائر، وجميع أنحاء موريتانيا وشمال غرب مالي والصحراء الغربية. وقد ترسخ هذا المفهوم بعد استقلال المغرب في الخمسينيات، عندما تطلع القوميون المغربيون إلى استعادة حدود السلطنة المغربية الكائنة قبل الاستعمار.
وبالإضافة إلى الاتفاقات الأمنية والدينية مع مالي، فقد سعت المغرب أيضاَ - التي تفتقر إلى النفط والموارد الطبيعية - إلى تعزيز العلاقات الاقتصادية مع جيرانها في الجنوب. فأقامت فروعاً لمصارفها في مالي والسنغال. وقد حصل إحداها - "التجاري وفا بنك" - على حصة تزيد عن 50 بالمائة في "بنك إنترناسيونال" في مالي. كما اشترت شركة "اتصالات المغرب" المملوكة للدولة شركات اتصالات في مالي وموريتانيا والنيجر ولديها فروع في بوركينا فاسو. وكثفت شركة "المكتب الشريف للفوسفات" ( (OCP - وهي شركة الفوسفات المغربية التي تديرها الدولة - عمليات التنقيب عن الفوسفات التي تقوم بها في شرق مالي (وعززت الأمن الغذائي في مالي في هذا الإطار). ولدى مالي موارد طبيعية أخرى يمكن للشركات المغربية أن تتطلع لاستخراجها، مثل الذهب واليورانيوم وخام الحديد، وربما الماس.
من فاس إلى تمبكتومع مرور الوقت فقط سنعرف إذا ما كانت علاقة المغرب مع مالي ستكون قائمة على المشاركة العادلة أم أنها علاقة تبعية. وفي ضوء جميع مناطق النفوذ التي ستحظى بها المغرب من علاقتها مع مالي، فعلى المرء أن يتساءل عما إذا كان بإمكان حكومة الرئيس المالي إبراهيم أبو بكر كيتا التفاوض على اتفاق تعويضي عادل إذا اكتشف عمال المناجم المغربية - على سبيل المثال - احتياطيات هائلة من الموارد الطبيعية في مالي.
ولا يزال ظل جارة المغرب الأكبر - الجزائر - يلوح في الأفق. فإذا أصبحت الجزائر أقل انشغالاً واهتماماً بقضاياها الداخلية، أو إذا أدت حالة عدم الاستقرار المتزايدة على حدودها إلى إجبار حكومتها على النظر أخيراً إلى الخارج والاضطلاع بدور إقليمي أكبر، فيمكنها حينئذ أن تحل محل سياسة القوة الناعمة الناشئة التي تتبناها المغرب في سياستها الخارجية. وعلى الرغم من ذلك، لا تزال الجزائر القوة الاقتصادية والأمنية الرئيسية في المنطقة، ولها حدود طويلة ونافذة مع مالي. إن إدراك حجم المصالح المغربية المتنامية عبر تلك الحدود يمكن أن ينبه الجزائريين بقوة ويخرجهم من حالة السكون الحالية.
ومع ذلك فقد اكتشفت المغرب دورها كوسيط ديني إقليمي، وهو الدور الذي لا يمكن للجزائر أن تلعبه. وبفضل الروابط الدينية التاريخية التي تجمع بين مالي والمغرب - حيث كانت فاس وتمبكتو ذات يوم مركزين رئيسيين في العالم الإسلامي الغربي للفقه والتعليم المالكي - فلن تجد المغرب أية صعوبة في تصدير مذهبها الديني للماليين المعتدلين، الذين من المرجح أن لا يروه كغزو فكري أجنبي، على عكس أي تدخل غربي طويل الأمد. وبطبيعة الحال فإن العملية الناجحة للقضاء على التطرف قد تستغرق سنوات. فالعديد من القوى المزعزعة للاستقرار قد انقضّت على مالي وخرجت منها مخلفة الدمار في طريقها. بيد أن الاستقرار والنجاح على المدى الطويل في البلاد يتطلبان شريكاً يفهم ثقافتها وهويتها الدينية، ويمكنه إعادة تنشيط مجتمع متمسك - رغم ما يمر به من قلاقل واضطرابات - بمقاومته للتطرف والأيديولوجيات التي تتخذ من العنف منهجاً وديدناً. ورغم أن مالي يمكن أن تصبح إحدى الدول التابعة لقوة أخرى في شمال أفريقيا، إلا أن وجود المغرب في هذا المشهد يشير إلى توافر فرصة أمثل لاقتلاع التطرف من هناك بشكل كامل.

 النص كامل من المصدر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

جميع الحقوق محفوظة لمدونة الرأي الأزوادي2014